كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولأنهم إذا منعوا تأويل المتشابه، ووجب اتباع الظاهر، تناقضت الظواهر ووقعت الأحكام العقلية والسمعية، وهؤلاء الذين ينظرون إلى هذا الظاهر، أو لا ينظرون إلى ظاهر الواو في دلالته على الجمع المذكور ولم يحلوا ذلك على الابتداء وقطع المعطوف عليه، وذلك خلاف ظاهر دلالة الواو وهذا بين.
فأما قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ}، فمثل ما روي عن الربيع بن أنس، أن هذه الآية نزلت في وفد نجران لما حاجوا النبي صلّى الله عليه وسلم في المسيح فقالوا:
أليس هو كلمة الله وروح منه؟
فقال: بلى.
فقالوا: حسنا، أي أنا لا نسمع منك بعد هذا قولك أنه عبد الله، بعد أن قلت أنه روح الله، فنزل قوله تعالى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ}.
ثم أنزل تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ الله كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ} الآية.
وقال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ}.
معناه: إن كون عيسى عبد الله، محكم على معنى أن التأويل لا يتطرق إلى الآيات الدالة على أن عيسى عبد الله.
وقوله: كلمة الله يحتمل أن يكون معناه: أنه الذي بشر به في كتب الأنبياء المتقدمين، ومثله قوله تعالى: {ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} الآية.
فسماه كلمة وقولا من حيث قدم البشارة به.
وسمى روحه، لأنه خلق من غير ذكر، بل أمر جبريل عليه السلام فنفخ في جيب مريم فقال: {فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا}، فأضاف الروح إلى نفسه تشريفا له كبيت الله، وأرض الله، وسماء الله.
وقد سمى القرآن روحا، لأنه يحيي به من الضلال، وسمى عيسى روحا، لأنه كان يحيي به الناس في أمور دينهم، فصرف أهل الزيغ ذلك إلى مذاهبهم الفاسدة، وإلى ما يعتقدونه من الكفر والضلال، فهذا مثال المحكم والمتشابه، الذي يجب أن يرد معناه إلى معنى المحكم.
قوله تعالى: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} الآية (21)، يدل على جواز الأمر بالمعروف مع خوف القتل.
قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ الله لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} الآية (23).
فيه دلالة على أن من دعا خصمه إلى الحكم لزمته إجابته، لأنه دعا إلى كتاب الله تعالى.
قوله تعالى: {لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ} الآية (28).
يدل على أنه لا يجوز أن يتخذ منهم أولياء وأن يلاطفوا، ومثله من كتاب الله: {لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا}.
وقال: {لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}.
وقال: {فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}.
وقال: {فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ}.
{أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ}.
وقال عليه السلام: «أنا بريء من مسلم مع مشرك، فقيل: يا رسول الله، ولم؟ قال: لا تراءى نارهما».
قوله تعالى: {تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً} (28). يدل على أن إظهار الموافقة في الاعتقاد وغيره جائز للتقية، وفي نفي الولاية، دليل على قطع الولاية بينهما في المال والنفس جميعا.
قوله تعالى: {إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ} (44).
يمكن أن يستدل به على جواز القرعة في إعتاق في مرضه إذا مات ولا مال له غيرهم، وفيه نظر، فإن ذلك كان إقراعا فيما يثبت بتراضيهم، وكانت القرعة طلبا للرضا، ورفعا لطلب الاختصاص بطريق الحكم، كما كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، لأن التراضي على ما خرجت به القرعة جائز من غير قرعة، وكذلك كان حكم كفالة مريم عليها السلام، وغير جائز وقوع التراضي على نقل الحرية عمن وقعت عليه.
قوله تعالى: {فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ} (61).
واعلم أن في هذا دلالة على أن الحسن والحسين رضي الله عنهما ابنا رسول الله صلّى الله عليه وسلم لأنه أخذ بيد الحسن والحسين حين أراد حضور المباهلة، وقال الله تعالى: {نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ}، ولم يكن للنبي صلّى الله عليه وسلم بنون غيرهما، وقال للحسن: «إن ابني هذا سيد».
وقال فيه حين بال عليه وهو صغير: «لا ترزموا ابني هذا».
وهما من ذريته أيضا، كما جعل الله عيسى من ذرية إبراهيم بقوله: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَسُلَيْمانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسى وَهارُونَ وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيى وَعِيسى}، وإنما نسبته إليه من جهة أمه لأنه لا أب له.
وقال كثير من العلماء: إن هذا مخصوص بالحسن والحسين أن يسميا ابني رسول الله صلّى الله عليه وسلم دون غيرهما، لقوله عليه السلام: «كل سبب ونسب ينقطع يوم القيامة إلّا سببي ونسبي».
وقد قال بعض أصحابنا: فمن أوصى لولد فلان، ولم يكن لصلبه ولد، وله ولد ابن، وولد ابنة، أن الوصية لولد الابن دون ولد الابنة، وهو قول الشافعي، وإلا فإذا استولد الهاشمي جارية حبشية كان الولد متشرفا بأبيه.
قوله تعالى: {إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا الله وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضًا أَرْبابًا مِنْ دُونِ الله} (64).
معناه: ألا نتبعه في تحليل شيء أو تحريمه إلا فيما حلّله الله تعالى، وهو نظير قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَرُهْبأنهمْ أَرْبابًا مِنْ دُونِ الله} معناه أنهم أنزلوهم منزلة ربهم، في قبول تحريمهم وتحليلهم لما لم يحرمه الله تعالى ولم يحله، وهذا يدل على بطلان القول بالاستحسان المجرد، الذي لا يستند إلى دليل شرعي، مثل استحسانات أبي حنيفة في التقديرات التي قدرها دون مستندات بينة.
وفيه رد على الروافض الذين يقولون: يجب قبول قول الإمام دون إبانة مستند شرعي، وأنه يحل ما حرمه الله، من غير أن يبين مستندا من الشريعة.
قوله تعالى: {وَيَقُولُونَ عَلَى الله الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} (75).
يدل على أن الكافر لا يجعل أهلا لقبول شهادته لأنه تعالى وصفه بأنه كذاب.
قوله تعالى: {يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا} (77).
يدل على أن المال لا يصير حلالا له إذا قضى القاضي بحكم الظاهر.
قوله تعالى: {كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إسرائيل إِلَّا ما حَرَّمَ إسرائيل عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ} (93).
وهذا يدل على جواز إطلاق الله تعالى للأنبياء تحريم ما أرادوا تحريمه، ويعصمهم عن الزلل في اختياراتهم، ويدل على جواز النسخ أيضا، وظاهر ذلك أنه حرمه بنفسه، لا أنه حرم عليه بالوحي، فإن الله تعالى أضاف التحريم اليه، ولم يكن ذلك بالاجتهاد في النظر في أدلة الشرع، فإن الذي كان حلالا من قبل نصا لا يتصور الاجتهاد المأخوذ من أصول الشرع في تحريمه، والاجتهاد طلب أدلة الشرع والنظر في معانيها، وقد كان ذلك حلالا من جهة الشرع، فعلم أنه صار محرما بعد الإباحة بتحريم يعقوب على نفسه لا بالاجتهاد، بل كان مأذونا له في أن يحرم ما شاء على نفسه، ولم يحرمها الله تعالى، وربما يدل ذلك على أن الذي كان من يعقوب انتسخ ثانيا من جهة الشريعة، وقد كان رسول الله صلّى الله عليه وسلم حرم مارية على نفسه، ولم يحرمها الله تعالى.
وربما يدل ذلك على أن الذي كان من يعقوب انتسخ بهذا.
ويجوز أن يقال: ومع تحريم مارية ليس نسخا لغيرها.
ويمكن أن يقال: مطلق قوله تعالى: {لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ الله لَكَ} يقتضي أن لا يختص بالشافعي.
وقد رأى الشافعي أن وجوب الكفارة في ذلك غير معقول المعنى فجعلها مخصوصا لموضع النص.
وأبو حنيفة رأى ذلك أصلا في تحريم كل مباح وأجراه مجرى اليمين.
قوله تعالى: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} إلى قوله: {وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِنًا} (96، 97).
قوله: {فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ}.
والآية في ذلك أن قدميه دخلتا في حجر صلد بقدرة الله عز وجل، ليكون ذلك آية ودلالة على توحيد الله، وصدق نبوة إبراهيم.
ومن الآية فيه: إمحاق الأحجار في موضع الرمي.
وامتناع الطير من العلو عليه، وإنما يطير حوله لا فوقه:
وتعجيل العقوبة لمن انتهك حرمته- وقد كانت العادة جارية بذلك- ومن جملة ذلك: هلاك أصحاب الفيل.
فقال الشافعي: لما ذكر الله تعالى أن فيها آيات بينات جعل من جملتها: أن من دخله كان آمنا، وأن ذلك كان من الآيات في أن الله تعالى جعل لذلك الموضع هيبة ووقارا وعظمة في نفوس المفسدين المتمردين، كما قال تعالى: {فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ} بأن يجبي اليه ثمرات كل شيء وهو بواد غير ذي زرع، {وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ}.
وقال: {أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا}.
فقوله: {كانَ آمِنًا}: مرتبا على ذكر الآيات، ظاهر في كونه خبرا عن شيء كان، وذلك لا يدل على أن من عصى الله تعالى، والتزم حد الله تعظيما لأمر الله وإجلالا لدينه، فهرب مما وجب، وصاحب الشرع يحرم عليه الالتجاء إلى الحرم، فإنه أمر تسليم النفس لحق الله تعالى، أنه يكون آمنا.
وهذا ليس بتأويل، إنما هو دليل مأخوذ من ظاهر لفظ الخبر، وهو قوله: {كان} ومن ظاهر السياق في ذكر الآيات وعد كونه آمنا في جملتها.
فإذا قيل: معناه لا تقتلوا أنتم، فليس ينتظم ذلك في سياق الآية، سيما وهو يضطر إلى الخروج بقطع المير عنه، فهو خائف صباحا ومساء، فكونه آمنا يخالف ذلك.
ويدل على ذلك أن القائل إذا قال: من دخل هذا الموضع كان آمنا، ثم لزمته حدود النفس وعقوبات على الأطراف، فإذا قيل: إنها تستوفى منه، لم يتحقق معنى الأمن مع ذلك، وعد إطلاق لفظ الأمن على كل داخل، مع إيجاب هذه العقوبات عليه مستلزما.
فإذا تقرر ذلك، فكيف تترك العمومات في القصاص والزواجر لهذا الكلام الوارد في معرض الآيات بلفظ الخبر؟
وهل جاز الحبس في الحرم الملتجئ اليه في دين عليه إلا لعموم قوله عليه السلام:
«لي الواجد يحل عرضه وعقوبته».
وهل وجب القصاص في النفس وغيرها، إلا على وجه واحد بقوله تعالى: {وَكَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ} الآية.
أولا يعلمون أنه إذا قطعت أطرافه لم تكن آمنة، ولا الداخل آمنا، فإن قطع الطرف يخشى منه هلاك النفس؟
قوله تعالى: {وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ} الآية (97):
والاستطاعة وردت مطلقة، وفسرها رسول الله صلّى الله عليه وسلم، بالزاد والراحلة، لا على معنى أن الاستطاعة مقصورة عليها، فإن المريض، والخائف، والشيخ الذي لا يثبت على الراحلة، والزمن، وكل من تعذر عليه الوصول، فهو غير مستطيع للسبيل إلى الحج، وإن كان واجدا للزاد والراحلة.
فدل أن مراد النبي صلّى الله عليه وسلم بقوله: «الاستطاعة الزاد والراحلة»، إبانة أن من أمكنه المشي إلى البيت ولم يجد زادا أو راحلة، لا يلزمه الحج، فبين النبي صلّى الله عليه وسلم، أن لزوم فرض الحج مخصوص بالركوب دون المشي، وأن من لا يمكنه الوصول اليه إلا بالمشي الذي يشق عليه ويعسر، فلا حج عليه، وذلك تنبيه على أن كل من لا يصل إلى البيت إلا بمشقة شديدة، فقد سقط عنه الحج، وقد قال الله تعالى: {وَما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.
والمرأة لما كانت كلحم على وضم، وكان ما يتوق- من خروجها دون محرم ونسوة ثقات- من الضرر على نفسها، أعظم من ضرر المشي في حق القادر عليه، فعلم بسقوط فرض المشي لما فيه من المشقة، سقوط ما فوقه، وهذا بالغ حدا.
نعم هذا الذي قلناه من المنصوص عليه، ودلالته في سقوط الحج، لضرر يعود إلى من عليه الحج، مع أنه قد ورد في منع وجوب الحج على المرأة، وعلى الزمن الذي لا يستطيع ركوب الراحلة إلا بمشقة شديدة أخبار خاصة.
وقد يمتنع وجوب الحج الضرر يرجع إلى الغير، إلى الحاج، كأن يكون عليه دين، أو يكون أجيرا، والمرأة إذا أرادت حجة الإسلام وهي منكوحة.
والاستطاعة تنعدم بهذه الجهات والأسباب، إذا امتنعت الاستطاعة، لضرر يرجع إلى الماشي، فلأن تمتنع بحق الغير أولى، فإن الماشي إن تكلف المشقة ربح الثواب، وأما من له الحق فإنه يتضرر من غير نفع يحصل له في مقابلته، وذلك يدل على أن الأمر فيه أعظم.
مع أنه يمكن أن يذكر فيه معنى آخر، وهو أن الحج قد ثبت بالدليل أنه على التراخي، وهذه الحقوق على الفور، والحج لا يفوت، وهذه الحقوق تفوت، والحج حق الله، وهذه الحقوق للآدمي، فربما يجري فيها زيادة مضايقة لحاجة الآدمي، وليس الشروع في هذه المعاني من مقصودنا إنما مقصودنا: اقتباس هذه الأحكام من هذه الآية الواردة في معنى الاستطاعة.
وهاهنا نوع آخر من الكلام، وهو أن الذين لا استطاعة لهم من المكلفين قسمان:
أحدهما: إذا تكلف المشقة وحج وقع عن فرض حجة الإسلام.
والآخر: إذا حج لم تقع عن حجة الإسلام.
فالقسم الأول كالمرأة إذا سافرت دون محرم أو نسوة ثقات، أو تكلف الماشي المشي، أو المريض تكلف المشقة.
والقسم الآخر كالعبد يحج دون إذن مولاه، فإنه لا يقع عن حجة الإسلام، حتى إذا عتق وجبت حجة الإسلام.
مع أن القسمين على سواء في سقوط خطاب الأداء فيهما.
وقد خالف في العبد قوم من السلف، وحكى الرازي هذا المذهب عن الشافعي، وهو منه غلط، ولم يختلف قول الشافعي في هذا المعنى، ولا عن أصحابه وجه على ما رواه عنه الرازي.
والفارق بين القسمين: إن كان من وصل إلى البيت ولزمه الحج، كالفقير والمريض الذي سهل عليه ذلك العذر من العمل، أو بسقط صاحب الحق، مثل المديون والأجير والزوج، أو لصاحبة المحرم مثل المرأة، فيلزمهم الحج، فإذا حجوا بأنفسهم وقع الموقع، فإنه يعلم بوجوب الحج عليهم عند حضور البيت، أو رصا من له الحق أن امتناع الأداء عارض، وأن الوجوب لولا العارض ثابت، وإذا أدى الحج، فليس في منع الاعتداد به عن حجة الإسلام إضرار بالغريم، فلا حج عليه، فدل أن المانع في الخطاب، وأن الخطاب قاصر عنه لنقص فيه، بالإضافة إلى الحج، فلا جرم لا يقع عن حجة الإسلام بحال.